انتهى مفعول “إبرة البنج” التي افتعلها تشكيل الحكومة، وعادت الليرة إلى تكبّد المزيد من الانهيارات أمام الدولار الأميركي، الذي سجّل أمس ارتفاعاً ملحوظاً وصل إلى 18800 ليرة للشراء و19200 ليرة للمبيع، وسط توقّعات تفيد بأنّ عودته إلى رقم 20 ألفَ ليرة مجدّداً باتت غير بعيدة.
قبل تشكيل الحكومة، كان الارتفاع والهبوط خاضعين بشكل أو بآخر لـ”العامل النفسي”، الذي لعب الصرّافون والمضاربون غير الشرعيين على تناقضاته طويلاً من أجل سحب الدولارات من جيوب المواطنين، تارة بواسطة الترهيب، وتارة أخرى بواسطة الترغيب. لكنّ الأمر المستجدّ اليوم، والخطير في الوقت نفسه، هو أنّ سعر صرف الدولار عاد إلى لعبته الأصلية والحقيقية، إلى لعبة “العرض والطلب”، التي غابت نتيجة هيمنة تطبيقات الهواتف الذكية على المشهد الصيرفي ومواظبتها على بثّ أسعار عشوائية لا تعكس حقيقة تحرّك السوق عرضاً وطلباً.
عبدو سعادة : الحكومة الجديدة “تحارب نفسها”، لأنّ المنطق وبديهيّات العمل الحكومي تفترض أنّ خيار الحفاظ على الليرة وتخفيض سعر صرف الدولار يتطلّب دفع الناس إلى التعامل بالعملة الوطنية وليس بالدولار الأميركي.
عاد سعر الصرف اليوم إلى الطلب، بل عاد إلى الطلب المتنامي والمتواصل وغير المتوازن مع العرض، وذلك نتيجة عاملين: الأول سياسيّ يتعلّق بالحكومة نفسها، والثاني نقديّ صرف.
العامل الأوّل يتعلّق بتحوّل سوق المحروقات (المازوت تحديداً) إلى البيع بالدولار الأميركي “الفريش”، إذ أكّد مصدر صيرفي في العاصمة بيروت لـ”أساس”، أمس، أنّ الطلب على الدولار “يشهد تطوّراً ملحوظاً مع بداية رفع الدعم عن المحروقات، وخصوصاً مع تحوّل شركات توزيع المازوت إلى البيع بالدولار الأميركي حصراً”. حمل هذا التطوّر سعر الصرف على التحليق مجدّداً في الأيام القليلة الماضية، إذ شهد صباح الجمعة انطلاقة صباحية غير مسبوقة من سعر 18800 ألف ليرة، أي “من عتبة لم يُقفل عندها مع نهاية اليوم السابق”، وهذا في نظر المصدر “أمر يُنبِىء بأنّ سعر الصرف ذاهب بقوة إلى مزيد من الارتفاع والتحليق”، ولا يُستبعد أن يعود في الأيام القليلة المقبلة إلى أرقام سبق أن سجّلها قبل تشكيل الحكومة، وكانت تدور في فلك الآلاف العشرين.
وفي هذا الصدد، يؤكّد نقيب أصحاب المولّدات عبدو سعادة، في اتصال مع “أساس”، أنّ الحكومة الجديدة “تحارب نفسها”، لأنّ المنطق وبديهيّات العمل الحكومي “تفترض أنّ خيار الحفاظ على الليرة وتخفيض سعر صرف الدولار يتطلّب دفع الناس إلى التعامل بالعملة الوطنية وليس بالدولار الأميركي، إلاّ أنّ شركات توزيع المحروقات نقلت البيع من اللبناني إلى الدولار، وباتت تفرض على أصحاب مولّدات الاشتراك والمولّدات الخاصّة شراء المازوت بالدولار حصراً”.
يقول سعادة إنّ عدد مولّدات الاشتراك في لبنان هو قرابة 3500، وهذا يستدعي من أصحابها “توفير بين 2 و3 ملايين دولار من السوق الموازي يوميّاً. أمّا إذا أضفت إلى هذا الرقم (3500 مولّد) مولّدات المستشفيات والمولّدات الخاصة في الأبنية السكنية، فإنّ العدد سيزداد الضعف في أقلّ تقدير، وسيصبح حجم الطلب اليومي على الدولار في حدود 6 أو 7 ملايين دولار”، وهذا كفيل بإلهاب سعر الصرف إلى مستويات قياسية.
عاد سعر الصرف اليوم إلى الطلب، بل عاد إلى الطلب المتنامي والمتواصل وغير المتوازن مع العرض، وذلك نتيجة عاملين: الأول سياسيّ يتعلّق بالحكومة نفسها، والثاني نقديّ صرف
يروي سعادة كيف حاول بعد ظهر يوم الخميس توفير مبلغ ألف دولار على سعر 18500 ليرة من الصرّافين ولم يفلح، وهذا “مؤشّر إلى أنّ الأمور إلى مزيد من التفاقم”، مذكّراً بأنّ ما تقوم به الشركات بغطاء أو بغضّ نظر من وزارة الطاقة “يخالف قانون النقد والتسليف الذي يحظر التسعير بخلاف العملة الوطنية، وتؤكّد الأمرَ نفسَه قوانينُ حماية المستهلك… لكن لا حياة لمن تنادي”، كاشفاً في الوقت عينه أنّه تقدّم بطعن ضدّ ذلك أمام مجلس الشورى.
أمّا العامل الثاني فسياسيّ، وينقسم بدوره إلى شقّين داخلي وخارجي. يتعلّق الداخلي بالحكومة نفسها، التي فقدت رونقها ورهجتها قبل إتمامها “الأربعين” يوماً، خصوصاً نتيجة تصريحات وزرائها “الهزلية” والإنشائية على طريقة “كليلة ودمنة”، مع انطلاقتها وخلال إجراءات التسليم والتسلّم، من دون أن ننسى طبعاً تصريح وزير الشؤون الاجتماعية و”الحفاضات في الصين”، وتصريح وزير الطاقة وتلعثمه بعد سؤاله عن البواخر الإيرانية… كلّ هذا أظهر باكراً هشاشة الحكومة.
أمّا الشقّ الخارجي فيتّصل ببواخر النفط الإيرانية، التي ترافق دخولها مع الأيام الأولى لتشكيل الحكومة، التي أطلقت بدورها “رصاصة رحمة” إضافية على أيّ بصيص أمل في إحداث تغيير، تشكّل عن طريق الخطأ أو بفعل الوهم في مخيّلة اللبنانيين. ثمّ جاءت الأجواء السلبية من ناحية فرنسا، وذلك مع فشل محاولة ماكرون التوسّط لدى وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان للتدخّل من أجل مساعدة لبنان. وأخيراً زيارة وزير الخارجية الإيراني أمير حسين عبد اللهيان، التي أعادت تذكيرنا، إذا كنّا قد سهونا أو أخطأنا، بأنّ هذه الحكومة ليست إلاّ حكومة إيران وحكومة “حزب الله”، وعلينا ألاّ ننسى ذلك أبداً!
مع تشكيل الحكومة، كان الرهان معقوداً على أن يدوم المخدِّر بمفعوله الإيجابي قرابة ثلاثة أشهر، إذ انخفض الدولار إلى 13500 في اليوم الأوّل، وها هو يرتفع قرابة 6 آلاف ليرة بعد شهر واحد.
إذاً الجرعة لم تدُم طويلاً لسوء الحظّ، فتلاشى مفعولها وانكشف كلّ شيء، وعاد سعر الصرف إلى حيث انتهينا في صباح العاشر من شهر آب 2020، أي إلى ما قبل استقالة الرئيس حسان دياب.
المصدر: أساس ميديا – عماد الشدياق